صرخة مريم
- لستُ صغيرةً يا أماه .
ترمي عبارتها وتنصرف إلى باب المنزل ، وخلفها سيدة في
عقدها السادس ، تقول في لوعة : لكن حظر التجوال يقترب ، والخطر في أشده عليك يا مريم
.
تربط الفتاة منديلها جيداً حول شعرها ، وتقول في تصميم :
لا يستطيعوا مس شعرة مني ، هؤلاء مغتصبون جبناء ، لا
تخافي عليَّ فقد ربيتني كالرجال .
لا تستطيع الأم أن تتركها فريسة لذئاب الليل من الجنود
والمستوطنين ، لكنها مصممة ، ستذهب للإطمئنان على والدها المصاب ، المطارد من
الاحتلال ، المختبئ في الجبل ، حيث لا تطاله أياديهم .
تودع مريم والدتها ، وتحمل سلة صغيرة في يدها ، بها بعض
الفواكه والخضار ، وتمضي بين الأشجار إلى حيث قدرها المعلوم .
****
الشمس تعلن عن رحيل النهار ، والحركة عند أطراف المخيم
غدت مستحيلة ، فمنع التجوال بدأ منذ لحظات ، والناس أوت إلى بيوتها ، والجنود مشاة
وعبر مركباتهم ينتشرون في الأزقة والطرقات وأنا ومعي رفيقي أشرف نتسلل تحت غطاء
الأشجار ، أسلحتنا البيضاء في جرابنا ، وعزيمتنا لم تذبل بعد .
تجهزنا للانصراف إلى مخبأنا ، وأشرف يقول في سخرية :
-
الدول تستخدم القنابل الإنشطارية يا صديقي ، ونحن بعد ببضعة
سكاكين وأحذية بالية .
-
نحن أصحاب الحق ، والحق لا يموت
-
لكنه يمرض
-
ربما ، لكن المرض يعطيك حصانة ما ، ويجعلك أقوى حين تشفى
منه .
-
يا لفلسفتك المعتادة يا صديقي ..
وقبل صعودنا للتل باغتتنا صيحة مدوية ، صيحة فتاة تستجير
..
****
المشهد يبدو واضحاً ..
بضعة جنود يحيطون بفتاة إحاطة السوار بالمعصم ، فتاة
فلسطينية بامتياز ، بثوبها /منديلها /ملامحها /رقتها وعزيمتها ..
أحدهم يحاول انتزاع السلة منها ، والآخر يتمتم بعبارات
قبيحة ، والثالث يحاول انتزاع منديلها ، وهي تضرب بيديها وجوههم ، تلطمهم بكل ما
أوتيت من قوة ، تصرخ من أعماقها : لن تمسوا شعرة مني .. يا أوغاد .. لقد وعدت أمي
.
صرخت في أشرف : يجب أن نتدخل فوراً .
قال أشرف في ضيق : بسكاكيننا .. وهم سبعة جنود .
قلت : بل بأجسادنا العارية لو لزم الأمر .
أشرت لأشرف باشارة متفق عليها فالتففنا حول المنطقة من
اتجاهين ، ووقف هو يراقب بينما اقتربت أنا من الجنود ، الذين تنبهوا لي فتوقفوا عن
مضايقة الفتاة ، ورفعوا أسلحتهم في تأهب ، صاح أحدهم :
- توقف مكانك .
قلت بصوت أردته مرتجفاً :
- أنا فلسطيني متعاون مع السلطات الاسرائيلية ، ولقد
لمحت حركة غريبة في هذه المنطقة . وأشرت باصبعي بإشارة مبهمة .
فقال كبيرهم وهو يشير لثلاثة منهم :
- تفقدوا الأمر حالاً .
اقترب مني ثلاثة جنود وأنا أتراجع كأني أقودهم ، حتى
دخلنا إلى منطقة كثيفة الأشجار ، فالتففت حول شجرة وأنا أقول :
- هنا بالضبط .
استدار أحدهم إلى حيث أشير ، فاستللت سكيني بسرعة ، وباغته
بضربة سريعة في وجهه سقط على إثرها وهو يصرخ ، ورفع الآخر سلاحه ، كانت مباراة في
سرعة الاستجابة ، طلقة واحدة كفيلة بقتل الفتاة ، طلقة واحدة كفيلة بإيقاظ المنطقة
كلها وجلب كل دورياتهم إلى المكان .
انحنيت أرضاً لأتفادى ضربة من فوهة بندقية أحدهم وأمسكت
بسلاحه لأنتزعه انتزاعاً ، باغته بضربة عنيفة من كعب البندقية على رأسه فسقط
هامداً فاقداً وعيه ، أما الثالث فقد رفع سلاحه صوبي ، وضغط زناده بكل قوته ،
وباتت حياتي في مهب الريح ، على مسافة ضغطة إصبع .
***
صعبة هي اللحظات التي تتخيل فيها الموت قريباً إلى هذا
الحد .
يقولون أن أكثر من يبكي حياته هو أكثر الناس إيثاراً ،
لأنه يبكي حال من سيتركهم بعده .
أفكر وأنا أرى الموت على بعد لحظة .
من سيرعى أمي المريضة ، ومن سينفق على أخي هيثم ، ومن
سيقاوم هذا الإحتلال الغاشم ، لا زال في جعبتي بعض الدماء لأريقها من أجل الوطن ،
لا زال في عروقي نبض آلام تجرعتها أرضي وأحتاج أن أذيقها لمغتصبي .
أغمضت عيني ، سمعت صوت صرخة مكتومة ، وشعرت بالدماء حارة
تلوث عنقي .. أهو الموت اذن ، الشهادة التي تمنيتها رغم كل شيء ؟
فتحت عيني في بطء ، لأجد الجندي مضرجاً أرضاً ، وخلفه
يقف أشرف وسكينه تقطر دماً .. وملامحه يبدو عليها الألم الشديد :
قال لي : رغم كل شيء ، لا زلت لا أحب إراقة الدماء .
قلت له وأنا أجرد الجنود من أسلحتهم ، وأربط الجندي
الفاقد للوعي الى الشجرة :
بل أننا مضطرون إلى أن نتحرر يا صديقي ..
نظرت إلى الجندي الفاقد للوعي ، والآخران الملقيان وسط
الدماء ، وتفتق ذهني عن خطة أخرى . .
***
لم يمض الوقت الكثير منذ غبنا ، قام الجنود الأربعة
المتبقين بتقييد مريم ، ولما شعر قائدهم ببعض القلق هم بإصدار أمرٍ بالتحرك بحثاً
عن الآخرين .
لكنه فوجئ بمشهد اثنان من جنوده يظهران من وراء الأشجار
القريبة ، وهما يجران جثة زميلهم الثالث ، ثم يلقونها أرضاً ، ويستندان إلى
الأشجار وهما يلهثان ، صرخ القائد بالعبرية : ماذا يحدث ، ماذا أصابكم ؟
لكن جنوده لم يردوا ، فاقترب جنديان آخران حتى أصبحا على
مسافة أمتار من زملائهم ، فاستدرنا أنا وأشرف بتنكرنا للجهة الأخرى ووقفنا نصطنع
اللهاث بصوت عال ، فاقترب الجنديان أكثر ، وعندما صارا على بعد متر واحد ، كنا أنا
وأشرف ننقض عليهما انقضاضة رجل واحد ، لم تعد الأمور تحتمل الاختباء أكثر .
دوت صوت رصاصات السلاح الذي جردناه من الجنود بعد أن
لبسنا أزيائهم العسكرية الثقيلة ، فأطحنا بالجنود بغتة بدفقة من الرصاصات ،
واختبأنا مرة أخرى خلف الأشجار ، بينما انتفض الضابط ، وصار يصرخ في الجندي وهو
يتراجع خوفاً : ماذا تنتظر ؟ انقض عليهم حتى أطلب الدعم .
انقض الجندي بكل قوة سلاحه ، ليمطر المنطقة كلها بالرصاص
، لتشتعل المنطقة وكأنها صارت جزءا من الجحيم . جحيم صهيوني على أرض فلسطينية
خالصة .
****
انقشعت سحب الدخان ..
كان اطلاق الرصاص متواصلاً لبضعة دقائق ، ثم انقشع
الضباب فجأة ، في المواقف المشابهة ، يصبح الانسان جامداً ، يشعر بكل ما حوله غير
أنه يفقد اتصاله بجسده ، لهذا لم أشعر بالدماء التي تدفقت من جرح في صدري ، كأنها
دماء لا تخصني ..
انقشع غبار المعركة ، لأجد الجندي واقفاً كالمنتصر ،
يصوب سلاحه إلى أشرف الذي سقط على بعد أمتار مني ، ويطلق النار .
صرخت في وجع : لاا
..
لكن الرصاص لم يسمع صوتي ..
هببت رغم جراحي ، وأمطرت الجندي بكل ما أملك من مقت وألم
، بكل ما يسري في دمائي من غضب ، وانتماء للأرض .
سقط الجندي أرضاً ، فارتميت بجوار أشرف ، أتحسس نبضه ،
ضعيفاً كان ، وعرفت أن صديقي يموت .
قال أشرف وهو يحاول جاهداً أن يتكلم :
- عدني أن تثأر لي يا صديقي .
قلت بكل الغضب الكامن في أعماقي : سأفعل
لكن لا تموت ..
ابتسم أشرف ، وقال :
رغم أنك تمنيت الشهادة أكثر مني ، لكني نلتها قبلك ..
لأول مرة أسبقك فعدني ألا تذهب دمائي هدراً ..
صَرَخْتُ : لن تفعل .
لن تضيع دماءك هدرا ..
وسقطت رأسه بجواره ، والإبتسامة لم تفارق محياه بعد ..
تحاملت على جراحي ، واتكأت على سلاحي ، ووقفت أقترب الى
حيث كان الضابط ومريم ، وكما توقعت كانت المنطقة فارغة إلا من ترابها وحجارتها ،
وكان الضابط ومريم قد اختفيا تماماً .
****
من سوء حظ ذاك الضابط ، وحسن حظ مريم أنني بدوي ، وأن
والدي كان خبيراً لا يشق له غبار في تقصي الأثر ، وأنه علمني منذ نعومة أظفاري كل
شيء .
ومن آثار الغصون المتكسرة ، وآثار الأقدام في التراب ،
والرائحة ، كانت طريق الضابط تبدو واضحةً ، كان الضابط يتجه الى المستوطنة
المحاذية للمخيم .
وإذا وصلها فان مريم لن تعود إلى بيتها مرة أخرى ، ولسوف
تضيع تضحية أشرف هباءا ..
ولأني كنت أعرف المنطقة جيداً ، وأحفظ دروبها وخباياها ،
فقط استطعت الإلتفاف حوله ، رغم الدماء التي كانت قد غطت صدري ، والألم الذي يكاد
يمزقني تمزيقا ..
يبدو أن النهاية تقترب ..
من تبة تعلو قليلاً عن الشارع الرملي الذي يسير فيه
الضابط استطعت رؤية المشهد كاملاً ..
كان الضابط يقتاد مريم وهي مقيدة ، والدماء تغطي وجهها
مما يدل على جبنه حين كان يفرغ غضبه وغيظه في ضربها .
وعندما اقتربت أكثر ، ظهرت للضابط قاطعاً الطريق أمامه ،
وفي يدي سلاح أحد جنوده ، والدماء التي تغطي صدري تعطيه مؤشراً زائفاً بانتصاره ..
صحت بكل قوة : أتركها
فقال الضابط : ستموت الفتاة لو اقتربْتَ شبراً واحداً ..
وأخرج سكينه ووضعه على عنقها .
فقلت له :
- لو تركتها تذهب ، سأعفُ عن حياتِك .
ضحك بكل القسوة المعتملة في صدره : تعفو عن حياتي
ثم قال متسائلاً :
ثم قال متسائلاً :
-
هل تعرفها ؟
-
لا
-
أهي أختك ، أمك ، زوجتك ؟
فقلت وأنا أرفع سلاحي أكثر في وجهه :
بل هي كل ذلك .
هي إبنة أمي فلسطين .
نظرت الفتاة لي بامتنان ، والدموع تغرق وجهها ، فقلت :
ما إسمك يا فتاة ؟
قالت : إسمي مريم
قلت للضابط : أتعلم المثل العربي ماذا يقول ؟
قال الضابط وهو يتراجع للخلف :
لا أعرف شيئاً عن أمثالكم أيها العرب .
فقلت : ما طار شيء وارتفع ..
فأكملت مريم : إلا كما طار وقع .
وبلمح البصر تهالكت كأنها تموت ، ملقية نفسها أرضاً
تاركة للجاذبية مهمة التقاطها . وأصبح وجه وصدر الضابط متاحاً لرصاصاتي ..
لم أنتظر كثيراً ، ولم تتردد أصابعي في الضغط على الزناد
، لحظة واحدة كانت فاصلة ، لكن الضابط مات ضاغطاً على زناده ، لتصيبني رصاصة أخرى
، دون أن تميتني .. لا زال في الصدر نفسٌ يتردد ..
هببت إلى الفتاة ، حللت قيودها ، وقلت لها في حنو :
هل أنت بخير ؟
قالت الفتاة بكل اللوعة :
- أتمطئن علي وقد نزفت دماءك لأجلي ..
قلت :
- سأوصلك إلى بيتك ، فلا تقلقي ..
قالت الفتاة ودموعها تغرق وجهها :
- بل أنا من سأفعل ، استند علي وامضِ معي .
ومضينا في الطريق عائدين ، لم أكن أستند إليها وحسب ،
خيل إليَّ أنها تحملني ، تطير بي عبر طرقات المخيم ،وخلفنا دوريات تقترب ، وأصوات
مروحيات تدوي من بعيد، حتى غبت عن الوعي
تماماً .
****
الشمس تشرق من جديد ..
أشرف يلوح لي ، وابتسامته تملأ وجهه ، قال لي :
- أنتظرك
فقلت : وها أنا أتيتك أخيراً .
فقال : ليس بعد يا صديقي .. ليس بعد .
واستيقظت ..
كانت مريم تقف بجواري ، وقد ضمدت كل جراحي هي وأمها في
منزلهما ، قالت الأم :
- لقد حكت لي مريم كل شيء .
وقالت مريم : لن أنسى بطولتك ما حييت .
فقلت متهالكاً :
- لا عليك أختي مريم .. فهذا قدري وقدر أشرف رحمه الله .
قالت مريم والدموع تترقرق في عينيها :
- لقد استشهد صديقك وأصبت أنت إصابات بليغة من أجل فتاة
لا تعرفها .
قلت : بل من أجل وطن أعرفه جيداً وكل من فيه أخوتي .
وابتسمتُ : ثم أني قلت للضابط
أنتِ أمي وأختي وكل شيء ..
قالت مريم : أحقاً ....؟
فقلتُ : بل أكثر ..
وعرفت يومها أن شيئاً جميلاً قد ولد في قلبي ..
ولم أنس حينها أن البشرى القادمة إلينا ستحمل إسم أشرف ،
وأنه سيبقى فينا لا يموت .
****

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق