ابحث في المدونة

الخميس، 16 يناير 2014

أشياء عادية باليرموك

أشياءٌ عادية باليرموك

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


الصورة ثابتة .
سيدة شابة تتمدد على الأرضية الترابية ، في مدخل منزلٍ شبه منهار ، تفتح ساقيها معرية بطنها ، وفتاة لا تتجاوز العشرين ، تمد يديها إلى السيدة فتعود بهما مخضبتان بالدماء وسائل المخاض ، سيدة منهارةٌ تصرخ ألماً ، وأطفال ملقون كيفما اتفق ، كأنهم لا شيء , رجلٌ تسعيني يحتضن عكازه وهو نائم كجنين أمام المنزل من الخارج ، وجهه متغضنٌ من عصف الزمن وجسده متخشب من عصف الحياة التي تنازع الموت ، و بعض رجال خلف حائطٍ مهدم ، ينزف أحدهم ، وينتفض الآخرون قهرا .
لا شيء يعكر صفو الصورة ، فالسيدة لا تستطيع الولادة بصورة طبيعية ، وصوت صراخها لا يظهر في الصورة لأن صوت الرصاص كان أعلى ، وعورتها لم تلفت انتباه أحد !
تحاول أن تدفع جنينها فتعجز ، تقف على قدميها ، فلا تعود يدي الشابة من بين ساقيها إلا بمزيدٍ من الدماء ، تمسحها وهي تتمتم / ليتنا استطعنا إحضار طبيب ، دورة إسعاف لا تؤهلني لكي أقوم بهذا .
تقولها مرتجفة ، تتمنى البكاء فلا تجد له وقتا ، تربت السيدة على رأسها /
رويداً يا صغيرتي ، تستطيعين ذلك ، فقط قومي بشق البطن ، عملية قيصرية صغيرة ستضطرين لإجرائها ، دون مخدر موضعي أو أي مسكنات ، سكينك الصغير سيفي بالغرض .
تمتد يد الفتاة راجفة ، تصل بطن السيدة التي تمددت أمامها على ظهرها صارخة :
افعليها .
وتصرخ الفتاة وسكينها يقطع لحم جارتها ، سأفعل .
لا شيء جديد ، فالصورة لم تزل ساكنة .
****
الهدف ليس ببعيد ,
بضع خطوات لا أكثر ، سقط رجلٌ ، لكن هذا لن يوقفنا ، يهم بالانقضاض ، يوقفه زميله :
- فهل تريدنا أن نفقدك أيضا
- سأفعل إن تطلب الأمر ذلك
يربت على كتفه : سنفعلها يا أحمد ، لكن بدون أن نخسرك .
يمزق أحمد قميصه ، يضمد به جرح رجل توسد الأرض ، الرصاص يضرب الحائط الذي كاد أن ينهار ، يعري زميله المصاب من قميصه المخضب بالدماء ، ينادي همساً : هات لي تلك العصا من هناك .
يلف أحمد العصا بالقش ثم بالقميص ، يهمس لأصحابه ، ينظر إلى الكيس المعلق ببوابة المخيم ، يلقي زميله العصا ثم يندفع جريا ، ينقض آخر بالحجارة تجاه مكان القناصة المفترض ، ويندفع أحمد بأقصى ما يستطيع إلى الكيس ، يختطفه ، يحتضنه ، يتلقى رصاصة تخترق الكيس إلى صدره ، يستمر جرياً ، يتلقى أخرى في ساقه ، يستمر زحفاً ، تحمله رمال المخيم ، تكبيرات الرجال تدوي كالبكاء ، وترنيمة حزينة تتعالى من لا مكان ، تتساقط الحجارة من الحائط القديم فتثير عاصفة من الغبار تمنعه عن أعينهم ، يتوارى خلف الجدار وهو يصرخ : فعلتها .
ويتلقاه زملاؤه في أحضانهم وهم يتشربون دماءه بأجسادهم ، يقبل أحدهم وجنتيه ، يسقط أرضا بوجه قارب الذبول ، وبجسد نحيل هش ، تتراخى قبضته حول الكيس ، يفتحه الرجال ، أو ما تبقى منهم ، يتخطفون ما فيه ، ويحمل أحدهم نصيبه إلى داخل المنزل المنهار ، يهوي إلى جوار زوجته ليقبض بكفه على راحة يدها ، يناولها نصيبه مبتسما ، يسقط من فرط الإرهاق بجوارها ، ويده تمتد تتحسس جسد الطفل الساكن .
والصورة ثابتةٌ لا زالت ، فتاة شابة تخيط بأصابع مرتجفة بطن سيدة شبه عارية مغطاة بالدماء ، وزوج نحيل ذابل يلفظ أنفاسه الأخيرة مبتسما ، وطفلاً عمره خمس دقائق يضطجع على صدر امرأة جف ثديها ، ورغيفا خبز أحدهما سقط بالطريق أمام شيخ ينازع الموت بمدخل بيت منهار .
لا شيء تغير إلا : كسرة خبز !

الأربعاء، 8 يناير 2014

تداخل



تداخــــــــــــــل


مرت لحظات وأنا في ذات الموقف وقد تسمرت تماماً ، بعين ملؤها الدهشة نظرت إلى آثار ملابس لم أرها من قبل ، كأس الخمر فارغ وملقى على الطاولة ، وكل شيء يشي برائحة خيانة طازجة ...
وبلمحة سريعة إلى الوراء .. بدأ الشريط كله يمر أمامي 
تغير في سلوكها ، رغبة حثيثة في الابتعاد عني ، تجلس وحدها وتغلق عليها باب غرفتها مستغلة وجودي في الصالة ، 
كانت أول مشكلة قد بدأت مذاك اليوم .. 
كيف تغلقين على زوجك باب غرفة هو ليس فيها ، ماذا تفعلين وحدك ..
يا من تجردت من إنسانيتك تماماً ، بت وحشاً لا تدرك ما تقول هكذا تدور بنا لحظات الدهشة المريرة 
يبدو أن لحظة النهاية تقترب كثيراً ، صرت أحلم كثيراً بهذه اللحظة 
حيث أرى سكيني يقطع لحمها الطازج ، وكنت أعرف أن مذاق دمها سيكون طيبا 
وتكررت زيارات أخي عليها ... أيها الأخ العاق 
يا من تدعي التدين ... تستغل وجودي خارج المنزل فتنال مني ومن شرفي 
كاترين ........
كذا صرخت حين رأيتها معه في ردهة منزلي ما الذي يجمع هذا وتلك ، أي أمر مشترك يجمع بين من أعرف جيداً ميله إلى أقصى اليمين وبين من تركتها على حريتها كيفما تشاء ، لم أجبرها على شيء حتى أقدس شيء ربما يحمله عربي يرتبط ببلاد غريبة ...
داعبت خصلات شعرها الأشقر في ارتباك وانصرفت إلى غرفتها شأن من يخفي أمراً جلل
ماذا تفعل هنا ، لم تفلح محاولاته لتبرير انتظاره لي وهو يعرف أنني سأكون في عملي في هذا الوقت .
وبدا كأن غمامة تنزاح من أمام عيني لتريني أمورا لم أكن لأراها 
لكن اليوم كانت الجريمة دامغة 
كأس الخمر وبقايا فستان أحمر كان يشي بجرم لن يكون مروره هيناً على قلبي المتلهف للانتقام 
تقف أمام باب غرفتها والدموع في عينيها 
تنظر لي وتبكي ، لسان حالها يقول : 
لماذا ؟ .... لم أبالِ بصراخ عينيها 
انقضضت عليها كنمرٍ جريح 
وبينما كانت سكيني تقطع بقايا الشك في أعماقي 
كانت الدماء تنساب مبللة ما خفي بين كفيها صغيراً مقدساً بسره وسرها لا يمسه غير طاهر ..
وفي آخر لحظاتها نطقت ما أبان حقيقة جريمتي ..
أول أركان صعودها وسقوطي .
قالتها بإيمان غريب ، هذا الصوت ليس صوتها ، ليست لغتها ، من علمك هذا 
صرخت بكل الغضب الكامن وقد بدأت تتكشف الأمور
إن كنت قد تحولت إلى النقيض تماماً 
إذن ..من فعل هذا ..أي آثار هذه ؟ 
بإصبعها المرتجف تشير إلي ...
كان أنت 
عقلك من جعلك تخلط الأوراق 
كان أنت ... أيها الفاسق 
وكنت أنا في وادٍ آخر ومنهل آخر وشتان شتان ...

*******
2008

زمن صلاح الدين ..



زمن صلاح الدين ..

هي تجربته رقم ... لم يعد يذكر ..
لكن الأمر أصبح عنده كالعادة .. إدمان أن يجرب كل يوم شيئاً جديداً وزمناً آخر غير زمنه الذي تهاوت فيه القيم وضاعت العروبة وسقطت القدس ..
اليوم عندما ركب آلته الزمنية كان يعرف أن شيئاً مختلفاً ، شيئاً خاصاً ، سيواكب رحلاته الزمنية هذه .. ستكون رحلة بمذاق خاص ..
انتهت الدوائر الملونة التي تتطاير حوله ، وتوقفت الآلة عن الدوران قبل أن تقذفه بعنف إلى الخارج وهي تعود إلى الدوران حول نفسها بسرعة جنونية ..
أصبح الآن في صحراء جرداء ، لا يرى أمامه أي مدنية أو حضارة ، ولكأن الزمن ألقى به مئات الأعوام إلى الخلف ..
من بعيد لاح له مخيم ، ومن بعيد أيضاً ظهرت سحابة من الغبار خرج منها فارس عربي يركب جواداً أدهماً ويحمل سيفاً تشرق عليه أشعة الشمس وتنعكس بألف لون ..
كالمسحور وقف يترقب الفارس ، مبهوراً ، مأخوذ الأنفاس ... يا له من زمن جميل .. وأي زمن .. 
من خلف الفارس ظهر فرسان آخرون ... أحاطوا جميعهم بالزمني وكبلوا أيديه قبل أن يضعوه خلف أحدهم على جواده بينما يتقدمهم قائدهم الفارس الأول بجواده الأدهم ..
ولم ينبس الزمني ببنت شفة وهو يراقب السيوف البراقة والحرملات الحمراء والخوذات الفضية التي تغطي الوجه إلا العينين والفم .. 
وفي أعمق أعماقه تمنى رؤيته .. وتمتم بصوت مسموع : 
- أريد أن أراه .. يجب أن أحذره مما سيحدث بعده ..
قال الفارس : 
- ماذا تقول أيها الدخيل ؟ 
فقال الزمني : 
- أريد أن أرى قائدكم .. يجب أن أحذره من خطر قادم ..
ابتسم الفارس ابتسامة خفيفة تلاشت بسرعة ، ثم انطلق مسرعاً أكثر بجواده والمخيم يبدو لهم واضحاً .. الرايات الخضراء ترتفع عالية مدوية في كل مكان ، والجنود ينتشرون يتدربون وينظمون الصفوف .. 
لكن شيئاً بدا من خلف المخيم من بعيد ، جعل الزمني في حالة من الذهول المطبق .. حالة من العجز حتى أن قلبه كاد أن يتوقف عن الخفقان ..
هذه المئذنة .. هذه الأسوار ... هذه الطرق التي تبدو من بعيد ...
إنها القدس ... انه المسجد الأقصى على بعد حجر ... إنهم على أبواب القدس ..
ولم يعد الزمني يتمالك نفسه ... صرخ بكل قوته ..
- أريد أن أراه .. أريد مقابلة قائدكم .. 
أنزله الفرسان بسرعة ، وضعوه في خيمة وفكوا وثاقه ، قدموا له الشراب والطعام ، ثم أجلسوه ليستريح ..
ساعات مضت .. ساعات من الانتظار الطويل ..
ثم جاء ..
فارس طويل ، له هيبة عظيمة .. لحيته البيضاء تضفي عليه وقاراً وحكمة ، وعينيه يشع منهما حزم يتجاوز كل وصف ..
اعتدل الجنود في صفين أمامه يؤدون التحية العسكرية حتى دلف إلى خيمة الزمني ..
- قف أيها الغريب فأنت في حضرة القائد العام ..
وقف الزمني مبهوراً ، يتأمل ملامح القائد وتمتم دون أن يدري : 
- الناصر صلاح الدين ..
ابتسم القائد وقد سمعه .. 
- من ؟ الناصر صلاح الدين ..
رحمه الله يا بني .. ليته كان معنا ليشهد هذا اليوم العظيم ..
انتفض جسد الزمني ، وقال متوتراً ..
- وهل قتل الناصر صلاح الدين ..؟ ما الذي حدث ؟ نحن نعلم جيداً أنه سيدخل القدس بعد معركة فاصلة ، ولقد جئت أحذره من خطر سيأتي بعده .. ستضيع القدس يا سادة ، ستسقط مرة أخرى في يد الصليبيين واليهود .. ستضيع جهودكم للأسف ..
قالها وسقط أرضاً وهو لا يقوى على الوقوف ، لكن القائد مد له يده ، قائلاً بصوت صارم : 
- قف أيها الرجل وتمالك نفسك ، فقد انتهى عصر صلاح الدين منذ أبد بعيد ، وما نحن إلا جيش آخر من جيوش المسلمين . .. ولن تضيع القدس مرة أخرى .. أتفهم .. لن تضيع القدس مرة أخرى ..
وهنا .. تنبه الزمني إلى أشياء لم ينتبه لها منذ أول مرة ..
هؤلاء الفرسان يرتدون الساعات اليدوية ، ويعلقون ساعة كبيرة في وسط الخيمة ... الأحذية مصنوعة من الجلد المتقن البراق ، والملابس مطرزة بأحدث الوسائل ..
ما الذي يحدث بالضبط ؟ 
وهنا سأل الزمني سؤاله الذي ينتظر جوابه بفارغ الصبر ..
- في أي عام نحن يا سيدي ..
وعندما سمع الجواب صرخ بصوت متحشرج ..
- أرجوك يا الهي .. لا أريد أن أستيقظ ... أبقني في هذا الزمن الجميل ..

******
أبريل 2009

غياب قسري



غيابٌ قسري /

سمراء تشبه كل شيء ، تشابه الليل حين يتسلل بليونة ، أو حين ينقض فجأة ، فيضاجع هدأة النهار ، دائماً ترتبط بالليل ، بالغروب ، بالأفول، دائماً أعرف أنها لن تبقى طويلاً معي ، كنت كلما رأيت رقتها قلت لنفسي : هذه الفاتنة خلقت .. لتموت .
تستفزني عيناها ، نظراتها غريبة عني ، راقبت سطوع الحياة في عينيها ، قالت لي حين اشتد الوجع :
- اتركني يا شريف .
وقلت حين زاد البعد عن الحد :
- فكيف أفعل يا من امتلكت الروح ؟
ولم ترد ، لكني اقتربت لمسافة أكبر من المسافة الآمنة ، صرت قريباً لدرجة وقوع حوادث خطيرة جداً . مسافة يستحيل عندها ايقاف مركبتك .
الدموع تتزاحم في عينيها ، تبلل وجنتيها ، هل قلت لكم أنها سمراء ؟ فلِمَ يتورد خداها كأنها عروسٌ في ليلة زفافها تجالس رفيق العمر لأول مرة ؟ عذراء تكشف عن سرها ، تتعرى للمرة الأولى . رأيت حسنها وعريها دون أن تنزع قطعة واحدة ، اقتحمت ممالكها دون أن ألمسها ، دخلت إلى أعمق أعماقها بمجرد قبلة !
قبلةٌ كانت كفيلة بإسقاط كل حصونها ودفاعاتها ، وبخروجها من عذريتها وحيائها ، قبلة جعلتها تنساب إلى عروقي دفعة واحدة ، كأنني ابتلعتها فجأة . تلك امرأة لم أحبها بالتدريج ، بل ابتلعتها كأنها قرص فيتامين أو حبة مسكن يجعلك رغم أنفك مدمناً ، فهل تظن بإمكاني مغادرتها ؟
القبلة لم تستمر كما ظننت أنت ! بلها كانت خاطفة كأنها البرق ، كأنني اقتطفت قطعة من الجنة بغتة ، وفررت قبل أن تلاحقني عيون ملائكة السماء ، وهبطت للأرض دفعة واحدة ، المسافات اختزلتها في ثانية واحدة ، ما بين شفاهك أو لا شفاهك عالم كامل ، أجتازه في ثوان .
تركتها تنساب من بين ذراعي ، تتراجع ، وصدى كلمتها لم يزل بعد :
- اتركني يا شريف .
- أولم أفعل ؟
تشيح بوجهها : لا يكفي أن تعطيني حريتي !
أبتسم : فماذا أفعل اذن ؟
تقترب مني مرة أخرى ، حد اقتحام نقطة الخطر ذاتها ، تطرق برأسها وعينيها ترمقني مرة واحدة ، نظرة واحدة كانت كفيلة بزلزلتي : أرغمني .
أحتضنها : لا أستطيع .
تغوص بين ذراعي : حاول
وأعتصرها أكثر : سأحارب من أجلك ، ولن أتركك ، يكفيني أنتِ .
تتمتم : ووالديَ ، والأعمام ، والجيران ...
وأكمل : والأحياء والأموات ، كل الناس لن يحولوا بيننا . أنت لي مهما قلتِ ، لن يحول بيننا إلا أن تقرري أنتِ أن تتركيني .
تذوب من بين ذراعي ، كأنها كانت محض سراب ، ولا تطاردني إلا ابتسامة عذبة لا تفارقها .
*******
الموجة الأولى تطارد سابقاتها ، قرص الشمس استغل فرصة صفاء السماء لينقض على البحر ، الأصفر الذهبي ضرب ريشته على الماء فحوله ذهبا ، على الشاطئ قصور رمال بنتها نازك الملائكة ، وأبيات شعر للبياتي تتقافز فوق الحصى والرمال ، قال الموج للموج :
-أتراه يعانق وهماً ؟
فقال الموج : بل يعانق الحب الذي لم يفارق .
تستمر الحياة بوتيرتها ، وهو جالس يحتضن البحر ، والحب ، والحياة.
سمراء كانت رفيقة مجلسه ، أنامله تحتضن أناملها ، شفتاه تحتضن شفتيها ، يعتب البحر ، يزأر الليل ، ينقطع الصدى ،
كان البحر هو الشاهد ، وبين ثناياه احتضن الشاهد !
- اتركني يا شريف .
وبين الصدى والصدى .
- أرغمني .
ويزداد البحر غربة ، ويزداد الليل وحشة ، ويصبح الصوت أبكمَ ، والرمل صامتاً كالوطن .
*****