أحمد عيسى Ahmed Isa
كاتب وأديب فلسطيني
ابحث في المدونة
الأحد، 24 نوفمبر 2019
الاثنين، 21 نوفمبر 2016
اسمها سوريا ق ق ج
اسمها سوريا
قصة قصيرة جداً
نظر عبر واجهة المحال
الزجاجية التي أغلق أغلبها ، وبقي بعضها
بباب لا يسترها ، يحول بين صاحبها وبينها بضع دبابات وشيء من الجنود والجثث ، تأمل مجسما لطفلٍ صغير ، يلبس بذلةً أنيقة ، بها ربطة عنق حمراء،
وقميصاً بلون الجسد أبيض .
رأى نفسه يلبسها، يعود إلى منزله متأنقاً، فابتسم ، اقترب من الزجاج ، فلم ير ابتسامته ، عَبَسَ فلم ير عبوسه ، ضرب بقبضته على الزجاج فسمع صوتاً كالأنين ، ارتد كالمصعوق حين رأى التمثال مضرجاً أرضاً ، حوله زجاج متكسر ،احتضنه متشبثا بما تبقى، وربطة العنق تشدهما للأسفل ..
حين عاد أحمد يحمل جرحه ، كانت الشمس تعلن اشراقها ، وكانت أم أحمد تنجب مولوداً جديداً أسمته -بالصدفة -سوريا .
رأى نفسه يلبسها، يعود إلى منزله متأنقاً، فابتسم ، اقترب من الزجاج ، فلم ير ابتسامته ، عَبَسَ فلم ير عبوسه ، ضرب بقبضته على الزجاج فسمع صوتاً كالأنين ، ارتد كالمصعوق حين رأى التمثال مضرجاً أرضاً ، حوله زجاج متكسر ،احتضنه متشبثا بما تبقى، وربطة العنق تشدهما للأسفل ..
حين عاد أحمد يحمل جرحه ، كانت الشمس تعلن اشراقها ، وكانت أم أحمد تنجب مولوداً جديداً أسمته -بالصدفة -سوريا .
رغبة أخيرة
رغبةٌ أخيرة
الى الشهيد الطفل : عبدالرحمن
تقهقرت الشمس قليلا ، بدت
كأنها تسقط بغتة ، ببعض نور لم يزل بعد تظهر الأشياء دون وضوح تام ، أجسامٌ صغيرةٌ
محمولةٌ على الأكف ، أرواح تتداعى ، ونجومٌ تخفت وأخرى تضاء ، حركة لا تنتهي في
مكان ضيق ، واسعٌ جداً بما يحويه من أرواح ، أكثر رحابة من الحياة ذاتها !
يتراجع د. مجدي من هول
المشاهد ، يفرك عينيه المتعبتين ، يذهب ليغسل وجهه المرهق ، المشفى يهتز بعنفٍ من
وقع الضربات التي لا تتوقف ، مشاهد الأطفال لا تفارق مخيلته ، كم أشتاقك يا عب
الرحمن !
عائلات بأكملها ممددة على
الأسرة ، بين قتيل وجريح ، صراخٌ لا ينتهي ، زغاريد خفية ، يرقص شبح الموت على
أنغام الطبول ، وصوت الرصاص ، ووقع القصف الذي لا ينتهي أبداً ..
أمام مكتبه يجلس ، يتساقط
فوق كرسيه متعباً ، لحظة انهيار بعد أيام لم يذق فيها طعم الراحة ..
يزعجه أن يرى الأشياء واضحة
هكذا ، دون زيف أو تصنع ، الصورة واضحة غير مقلوبة ، هؤلاء يتصرفون على طبيعتهم ،
لأنهم لا يجدوا وقتاً لرفاهية التصنع ، لقد ولد هؤلاء .. ليموتوا ..
تعود دائماً أن يتأمل سخرية
الحياة ، أن يتعلم درساً من اختلافها ، واختلاف طرائق الموت في مباغتة ضحاياه ،
وفاة داهمة بسكتة قلبية \ حادث سير\ مشاجرة عائلية \ غرق \ حريق منزلي ، وسائل
وأشياء تتصنعها الحياة لكي تغتال أحداً ، قدرٌ ولا شك ، يجعل الاختلاف بين الناس
في الحياة والموت ، طبيعة .
الأجساد المسجاة أمامه
اليوم ، تعلن توحداً في الموت ، كما كان في الحياة .
انه المصير الواحد ، بذات
الوسيلة والكيفية وبنفس الأداة .
كم يلزمك من الشجاعة ،
يقولها محدثاً نفسه المتعبة . لتشيع حبيباً ؟
وماذا يلزمك ؟ من انفعالات
لتعبر بها عن ذاتك ، وأنت تحفر قبراً ، وتضع رخاماً ، لتدفن أعز الناس إلى قلبك ؟
يستفيق من غفوته ، على وقع
انفجار عاشر بعد الألف ، ينتفض قليلاً وقد تعود هذا الصوت ، حتى أصبح يتساءل ،
عندما تمضي دقيقة دون انفجار ، ماذا هناك ؟ وأي أمرٍ طارئ مخيف ، جعل القصف على
غزة يتوقف ؟
استر يا رب .
يقف ، يغسل وجهه ، ومن خلفه
استغاثة أحد الممرضين ، موجة جديدة من الشهداء ، وبينهم –كالعادة – أطفالاً في عمر
الزهور ، الزهور التي ذبلت خوفاً ..
***
- لا تخرج يا والدي
يتمسك به عبد الرحمن ،
يتشبث به بقوة غريبة ..
يزيحه والده برفق ، انه
واجبي يا صغيري ، وهو استدعاء طارئ ولا شك ، ربما ليلة واحدة وأعود إليك .
يبتسم ، مرغماً ، وتتراخى
قبضته حول ذراع والده ..
- ماذا تحب أن أحضر لك ؟
تتلاشى الابتسامة ، يجفل مع
وقع الانفجار الثاني ، ويقول بصوت متهدج :
- فقط أريدك أنت .. أن تعود
لي .
***
غرفة الطوارئ مكتظة ، عن
آخرها ، والأجساد متلاصقة ، يصعب أن تميز بين الجرحى والشهداء ، فكلهم هناك ، كلهم
تشع أجسادهم عبيرا ، كلهم ينزفون ، بدماءٍ من لونٍ .. واحدْ .
وهو يهرول ، ليتفقد أحد
الشهداء الصغار ، تصلب شعر رأسه بغتة ، شعورٌ غريب يعتريه أن ثمة مصيبة .. قادمة .
الجسد أمامه ملقى على ظهره
، وجهه مغطى بالغبار بع انتشاله من ركام منزله ، قميصه الأزرق ممزق ، قميصه الأزرق
!
" فقط أريدك أنت .. أن
تعود لي "
الدموع تتجمد في مقلتيه ،
يفحص صدر الطفل ، لا نبض
يمسح بكفيه وجهه الصغير ، يزيح الغبار عنه ،
تتبدى رويداً رويداً ، ملامح طفلٍ تركه منذ ثمانية أيامٍ وحيداً ، مع زوجته
الصابرة ، في منزلٍ بعيدٍ عن كل بؤر التوتر ، منزلٍ لم يعد اليوم ، كما كان .
يحاول أن ينعشه ، أن يعطيه
دفقة حياة ، يصرخ بما أوتي من قوة ، يتجمد المشهد في قاعة الطوارئ ، حتى المصابين
، يرقبوا المشهد في دهشة ، وزملائه من الأطباء ، والممرضين ، يهرعون ليواسوه ،
يتساقط أمام جثة الصغير ، يحمله بين يديه ، يبكيه ، ترتعد فرائصه وهو يتخيل لحظة
كان يخشاها ، حين يواريه التراب ، ويتركه هناك ، وحيدا ..
يقبله في جبينه ، ويصرخ :
- وداعاً يا عبدالرحمن .
وبصوتٍ كالذهول يقول :
- ليتني أهديك عمري
ويرد الطفل ذات حياة :
" فقط أريدك أنت .. أن
تعود لي "
***
غزة
22
نوفمبر
معركة حجارة السجيل صرخة مريم
صرخة مريم
- لستُ صغيرةً يا أماه .
ترمي عبارتها وتنصرف إلى باب المنزل ، وخلفها سيدة في
عقدها السادس ، تقول في لوعة : لكن حظر التجوال يقترب ، والخطر في أشده عليك يا مريم
.
تربط الفتاة منديلها جيداً حول شعرها ، وتقول في تصميم :
لا يستطيعوا مس شعرة مني ، هؤلاء مغتصبون جبناء ، لا
تخافي عليَّ فقد ربيتني كالرجال .
لا تستطيع الأم أن تتركها فريسة لذئاب الليل من الجنود
والمستوطنين ، لكنها مصممة ، ستذهب للإطمئنان على والدها المصاب ، المطارد من
الاحتلال ، المختبئ في الجبل ، حيث لا تطاله أياديهم .
تودع مريم والدتها ، وتحمل سلة صغيرة في يدها ، بها بعض
الفواكه والخضار ، وتمضي بين الأشجار إلى حيث قدرها المعلوم .
****
الشمس تعلن عن رحيل النهار ، والحركة عند أطراف المخيم
غدت مستحيلة ، فمنع التجوال بدأ منذ لحظات ، والناس أوت إلى بيوتها ، والجنود مشاة
وعبر مركباتهم ينتشرون في الأزقة والطرقات وأنا ومعي رفيقي أشرف نتسلل تحت غطاء
الأشجار ، أسلحتنا البيضاء في جرابنا ، وعزيمتنا لم تذبل بعد .
تجهزنا للانصراف إلى مخبأنا ، وأشرف يقول في سخرية :
-
الدول تستخدم القنابل الإنشطارية يا صديقي ، ونحن بعد ببضعة
سكاكين وأحذية بالية .
-
نحن أصحاب الحق ، والحق لا يموت
-
لكنه يمرض
-
ربما ، لكن المرض يعطيك حصانة ما ، ويجعلك أقوى حين تشفى
منه .
-
يا لفلسفتك المعتادة يا صديقي ..
وقبل صعودنا للتل باغتتنا صيحة مدوية ، صيحة فتاة تستجير
..
****
المشهد يبدو واضحاً ..
بضعة جنود يحيطون بفتاة إحاطة السوار بالمعصم ، فتاة
فلسطينية بامتياز ، بثوبها /منديلها /ملامحها /رقتها وعزيمتها ..
أحدهم يحاول انتزاع السلة منها ، والآخر يتمتم بعبارات
قبيحة ، والثالث يحاول انتزاع منديلها ، وهي تضرب بيديها وجوههم ، تلطمهم بكل ما
أوتيت من قوة ، تصرخ من أعماقها : لن تمسوا شعرة مني .. يا أوغاد .. لقد وعدت أمي
.
صرخت في أشرف : يجب أن نتدخل فوراً .
قال أشرف في ضيق : بسكاكيننا .. وهم سبعة جنود .
قلت : بل بأجسادنا العارية لو لزم الأمر .
أشرت لأشرف باشارة متفق عليها فالتففنا حول المنطقة من
اتجاهين ، ووقف هو يراقب بينما اقتربت أنا من الجنود ، الذين تنبهوا لي فتوقفوا عن
مضايقة الفتاة ، ورفعوا أسلحتهم في تأهب ، صاح أحدهم :
- توقف مكانك .
قلت بصوت أردته مرتجفاً :
- أنا فلسطيني متعاون مع السلطات الاسرائيلية ، ولقد
لمحت حركة غريبة في هذه المنطقة . وأشرت باصبعي بإشارة مبهمة .
فقال كبيرهم وهو يشير لثلاثة منهم :
- تفقدوا الأمر حالاً .
اقترب مني ثلاثة جنود وأنا أتراجع كأني أقودهم ، حتى
دخلنا إلى منطقة كثيفة الأشجار ، فالتففت حول شجرة وأنا أقول :
- هنا بالضبط .
استدار أحدهم إلى حيث أشير ، فاستللت سكيني بسرعة ، وباغته
بضربة سريعة في وجهه سقط على إثرها وهو يصرخ ، ورفع الآخر سلاحه ، كانت مباراة في
سرعة الاستجابة ، طلقة واحدة كفيلة بقتل الفتاة ، طلقة واحدة كفيلة بإيقاظ المنطقة
كلها وجلب كل دورياتهم إلى المكان .
انحنيت أرضاً لأتفادى ضربة من فوهة بندقية أحدهم وأمسكت
بسلاحه لأنتزعه انتزاعاً ، باغته بضربة عنيفة من كعب البندقية على رأسه فسقط
هامداً فاقداً وعيه ، أما الثالث فقد رفع سلاحه صوبي ، وضغط زناده بكل قوته ،
وباتت حياتي في مهب الريح ، على مسافة ضغطة إصبع .
***
صعبة هي اللحظات التي تتخيل فيها الموت قريباً إلى هذا
الحد .
يقولون أن أكثر من يبكي حياته هو أكثر الناس إيثاراً ،
لأنه يبكي حال من سيتركهم بعده .
أفكر وأنا أرى الموت على بعد لحظة .
من سيرعى أمي المريضة ، ومن سينفق على أخي هيثم ، ومن
سيقاوم هذا الإحتلال الغاشم ، لا زال في جعبتي بعض الدماء لأريقها من أجل الوطن ،
لا زال في عروقي نبض آلام تجرعتها أرضي وأحتاج أن أذيقها لمغتصبي .
أغمضت عيني ، سمعت صوت صرخة مكتومة ، وشعرت بالدماء حارة
تلوث عنقي .. أهو الموت اذن ، الشهادة التي تمنيتها رغم كل شيء ؟
فتحت عيني في بطء ، لأجد الجندي مضرجاً أرضاً ، وخلفه
يقف أشرف وسكينه تقطر دماً .. وملامحه يبدو عليها الألم الشديد :
قال لي : رغم كل شيء ، لا زلت لا أحب إراقة الدماء .
قلت له وأنا أجرد الجنود من أسلحتهم ، وأربط الجندي
الفاقد للوعي الى الشجرة :
بل أننا مضطرون إلى أن نتحرر يا صديقي ..
نظرت إلى الجندي الفاقد للوعي ، والآخران الملقيان وسط
الدماء ، وتفتق ذهني عن خطة أخرى . .
***
لم يمض الوقت الكثير منذ غبنا ، قام الجنود الأربعة
المتبقين بتقييد مريم ، ولما شعر قائدهم ببعض القلق هم بإصدار أمرٍ بالتحرك بحثاً
عن الآخرين .
لكنه فوجئ بمشهد اثنان من جنوده يظهران من وراء الأشجار
القريبة ، وهما يجران جثة زميلهم الثالث ، ثم يلقونها أرضاً ، ويستندان إلى
الأشجار وهما يلهثان ، صرخ القائد بالعبرية : ماذا يحدث ، ماذا أصابكم ؟
لكن جنوده لم يردوا ، فاقترب جنديان آخران حتى أصبحا على
مسافة أمتار من زملائهم ، فاستدرنا أنا وأشرف بتنكرنا للجهة الأخرى ووقفنا نصطنع
اللهاث بصوت عال ، فاقترب الجنديان أكثر ، وعندما صارا على بعد متر واحد ، كنا أنا
وأشرف ننقض عليهما انقضاضة رجل واحد ، لم تعد الأمور تحتمل الاختباء أكثر .
دوت صوت رصاصات السلاح الذي جردناه من الجنود بعد أن
لبسنا أزيائهم العسكرية الثقيلة ، فأطحنا بالجنود بغتة بدفقة من الرصاصات ،
واختبأنا مرة أخرى خلف الأشجار ، بينما انتفض الضابط ، وصار يصرخ في الجندي وهو
يتراجع خوفاً : ماذا تنتظر ؟ انقض عليهم حتى أطلب الدعم .
انقض الجندي بكل قوة سلاحه ، ليمطر المنطقة كلها بالرصاص
، لتشتعل المنطقة وكأنها صارت جزءا من الجحيم . جحيم صهيوني على أرض فلسطينية
خالصة .
****
انقشعت سحب الدخان ..
كان اطلاق الرصاص متواصلاً لبضعة دقائق ، ثم انقشع
الضباب فجأة ، في المواقف المشابهة ، يصبح الانسان جامداً ، يشعر بكل ما حوله غير
أنه يفقد اتصاله بجسده ، لهذا لم أشعر بالدماء التي تدفقت من جرح في صدري ، كأنها
دماء لا تخصني ..
انقشع غبار المعركة ، لأجد الجندي واقفاً كالمنتصر ،
يصوب سلاحه إلى أشرف الذي سقط على بعد أمتار مني ، ويطلق النار .
صرخت في وجع : لاا
..
لكن الرصاص لم يسمع صوتي ..
هببت رغم جراحي ، وأمطرت الجندي بكل ما أملك من مقت وألم
، بكل ما يسري في دمائي من غضب ، وانتماء للأرض .
سقط الجندي أرضاً ، فارتميت بجوار أشرف ، أتحسس نبضه ،
ضعيفاً كان ، وعرفت أن صديقي يموت .
قال أشرف وهو يحاول جاهداً أن يتكلم :
- عدني أن تثأر لي يا صديقي .
قلت بكل الغضب الكامن في أعماقي : سأفعل
لكن لا تموت ..
ابتسم أشرف ، وقال :
رغم أنك تمنيت الشهادة أكثر مني ، لكني نلتها قبلك ..
لأول مرة أسبقك فعدني ألا تذهب دمائي هدراً ..
صَرَخْتُ : لن تفعل .
لن تضيع دماءك هدرا ..
وسقطت رأسه بجواره ، والإبتسامة لم تفارق محياه بعد ..
تحاملت على جراحي ، واتكأت على سلاحي ، ووقفت أقترب الى
حيث كان الضابط ومريم ، وكما توقعت كانت المنطقة فارغة إلا من ترابها وحجارتها ،
وكان الضابط ومريم قد اختفيا تماماً .
****
من سوء حظ ذاك الضابط ، وحسن حظ مريم أنني بدوي ، وأن
والدي كان خبيراً لا يشق له غبار في تقصي الأثر ، وأنه علمني منذ نعومة أظفاري كل
شيء .
ومن آثار الغصون المتكسرة ، وآثار الأقدام في التراب ،
والرائحة ، كانت طريق الضابط تبدو واضحةً ، كان الضابط يتجه الى المستوطنة
المحاذية للمخيم .
وإذا وصلها فان مريم لن تعود إلى بيتها مرة أخرى ، ولسوف
تضيع تضحية أشرف هباءا ..
ولأني كنت أعرف المنطقة جيداً ، وأحفظ دروبها وخباياها ،
فقط استطعت الإلتفاف حوله ، رغم الدماء التي كانت قد غطت صدري ، والألم الذي يكاد
يمزقني تمزيقا ..
يبدو أن النهاية تقترب ..
من تبة تعلو قليلاً عن الشارع الرملي الذي يسير فيه
الضابط استطعت رؤية المشهد كاملاً ..
كان الضابط يقتاد مريم وهي مقيدة ، والدماء تغطي وجهها
مما يدل على جبنه حين كان يفرغ غضبه وغيظه في ضربها .
وعندما اقتربت أكثر ، ظهرت للضابط قاطعاً الطريق أمامه ،
وفي يدي سلاح أحد جنوده ، والدماء التي تغطي صدري تعطيه مؤشراً زائفاً بانتصاره ..
صحت بكل قوة : أتركها
فقال الضابط : ستموت الفتاة لو اقتربْتَ شبراً واحداً ..
وأخرج سكينه ووضعه على عنقها .
فقلت له :
- لو تركتها تذهب ، سأعفُ عن حياتِك .
ضحك بكل القسوة المعتملة في صدره : تعفو عن حياتي
ثم قال متسائلاً :
ثم قال متسائلاً :
-
هل تعرفها ؟
-
لا
-
أهي أختك ، أمك ، زوجتك ؟
فقلت وأنا أرفع سلاحي أكثر في وجهه :
بل هي كل ذلك .
هي إبنة أمي فلسطين .
نظرت الفتاة لي بامتنان ، والدموع تغرق وجهها ، فقلت :
ما إسمك يا فتاة ؟
قالت : إسمي مريم
قلت للضابط : أتعلم المثل العربي ماذا يقول ؟
قال الضابط وهو يتراجع للخلف :
لا أعرف شيئاً عن أمثالكم أيها العرب .
فقلت : ما طار شيء وارتفع ..
فأكملت مريم : إلا كما طار وقع .
وبلمح البصر تهالكت كأنها تموت ، ملقية نفسها أرضاً
تاركة للجاذبية مهمة التقاطها . وأصبح وجه وصدر الضابط متاحاً لرصاصاتي ..
لم أنتظر كثيراً ، ولم تتردد أصابعي في الضغط على الزناد
، لحظة واحدة كانت فاصلة ، لكن الضابط مات ضاغطاً على زناده ، لتصيبني رصاصة أخرى
، دون أن تميتني .. لا زال في الصدر نفسٌ يتردد ..
هببت إلى الفتاة ، حللت قيودها ، وقلت لها في حنو :
هل أنت بخير ؟
قالت الفتاة بكل اللوعة :
- أتمطئن علي وقد نزفت دماءك لأجلي ..
قلت :
- سأوصلك إلى بيتك ، فلا تقلقي ..
قالت الفتاة ودموعها تغرق وجهها :
- بل أنا من سأفعل ، استند علي وامضِ معي .
ومضينا في الطريق عائدين ، لم أكن أستند إليها وحسب ،
خيل إليَّ أنها تحملني ، تطير بي عبر طرقات المخيم ،وخلفنا دوريات تقترب ، وأصوات
مروحيات تدوي من بعيد، حتى غبت عن الوعي
تماماً .
****
الشمس تشرق من جديد ..
أشرف يلوح لي ، وابتسامته تملأ وجهه ، قال لي :
- أنتظرك
فقلت : وها أنا أتيتك أخيراً .
فقال : ليس بعد يا صديقي .. ليس بعد .
واستيقظت ..
كانت مريم تقف بجواري ، وقد ضمدت كل جراحي هي وأمها في
منزلهما ، قالت الأم :
- لقد حكت لي مريم كل شيء .
وقالت مريم : لن أنسى بطولتك ما حييت .
فقلت متهالكاً :
- لا عليك أختي مريم .. فهذا قدري وقدر أشرف رحمه الله .
قالت مريم والدموع تترقرق في عينيها :
- لقد استشهد صديقك وأصبت أنت إصابات بليغة من أجل فتاة
لا تعرفها .
قلت : بل من أجل وطن أعرفه جيداً وكل من فيه أخوتي .
وابتسمتُ : ثم أني قلت للضابط
أنتِ أمي وأختي وكل شيء ..
قالت مريم : أحقاً ....؟
فقلتُ : بل أكثر ..
وعرفت يومها أن شيئاً جميلاً قد ولد في قلبي ..
ولم أنس حينها أن البشرى القادمة إلينا ستحمل إسم أشرف ،
وأنه سيبقى فينا لا يموت .
****
ليلة البيضا الأخيرة
ليلة (البيضا) الأخيرة
قال
الشاعر الألماني شيلر : الأرواح العظيمة تعاني في صمت
وأقول : الأقلام
العظيمة تلتزم الصمت ، حين يكون الموقف أعظم
فأي كلام يقال يا
بيضاء ، حين تصبح الأجساد طريقاً للحفاظ على ابتسامتك ، وصرختك ، وأغنيتك .
.
.
.
.
.
.حواجزٌ لا نهائية أمامه ، ارتفاعاتٌ وانخفاضات ، شمسٌ حارقةٌ في بداية مايو ، شمسٌ أبت أن تكون باردة على الأجساد ، أو لطيفة كما يجب لها أن تكون في مثل هذا الوقت من العام .
لكنه كان يلبس قميصاً بأكمام ، يرتجف جسده كأنه في سيبيريا ، ويتقي أمطاراً وهمية ليس لها أي أثرٍ في المكان ، يسمع صوت الرعد وحده ، فيجفل ، ويرى البرق خاطفاً فيغمض عينيه ألماً ، يمضي في طريقه متسلقاً ، يبحث عن غايته ، رأى نفسه بروميثيوس يواجه غضب الآلهة ، سمع عن عقابه لأنه يحب أن يقرأ ، لطالما رأى في الأساطير اليونانية فرصة ليطير معهم ، ويرى جبروت أبطالهم ، قال لنفسه يوماً : حتى آلهتهم تموت ، وتمتم في أعماقه ما لم يسمعه غيره : فلمِ آلهتنا لا تموت ؟ وتذكر قاتله.
قالت له أمه –ذات حياة – أما يكفينا ما حدث ؟
فقال رغم طفولته : أما كفى بسطام جرح عنترة !
لم ترد ، ولم تمنعه من الخروج ، ولم تمنع عنه فطور الصباح أو كأس الشاي ، ما كان أصلاً يملك غير حنجرته ، عرفه الحي كله بصوته ، قالوا له : ربما لو كان الظرف يختلف لأصبحت مطرباً .
فقال : لو كان الظرف يختلف لما غنيت .
كان يغني كل يوم ، وهم يهتفون وراءه ، ويبكون . حتى عندما جاء أحد المخبرين ، قال لوالده همساً :
احفظ لسان ابنك قبل أن ..
ولم يكمل .. لكن قاووش لم يفارق ذاكرة الوالد ، فرد بصوت كالمبحوح ، سأفعل .
ولم يفعل ، ذاك أن طفولة أحمد كانت تخترق الحواجز كلها ، لتفرض على الكون رجولة لا تعترف بسن البلوغ ، ووقفة لا تعرف قوانين الانحناء ، وصلابة تكسر كل فيزياء الكون .
جرب أهل الحي أن يصمتوا ، أن يتوقفوا عن الغناء لليلة ، كانت الليلة بالصدفة ليلة زفاف (منى) ، غنت لها صديقتها : "يا عروس ريتها مباركة الحنة "
وسمعت صوت انفجارٍ فأكملت :" يلي سبيتي الحواري الساكنة الحنة " أو الجنة .. لم تدرِ أيهما أقرب ..
صرخت نساء البلدة فيها : اصمتي يا أنتِ ، خلّي الليلة تمضي على خير
قالت العروس : لن يسمعوا هتافنا ، ثم أنه موال عرسٍ لا أكثر .
ردت الجدران : سيسمعون .
وصمَّت الجدران أذنيها حين سمعت صراخ الحضور ، ثم تكسر كبرياؤها حين دوت القذائف في الأجساد الحية ، ثم انهارت خجلاً حين رأت عذرية منى تسقط أمام قاتليها ، قال الجدار للجدار :
ليتهم قتلوها .
فقال الجدار : بل ليتهم قتلوه قبل أن يراها هكذا .
ولم يخيبوا ظنهما ، فقتلوهما ..
ومن يومها ، لم يعد يُسمع صوت الغناء في القرية وما عاد أحمد يبتسم .
بعد دقائق طويلة ظنها دهراً ، وصل أحمد إلى قمة التلة ، نظر حوله حتى رأى أمه .
كانت هناك ، في نهاية تلٍ كبير صنع من الأجساد المسجاة ، عن يمينها جارته أم وائل ، وعن يسارها يد زوجها وشيء من بقاياه ، والسماء كانت تمطر رصاصاً ، والأرض تقطر دماً ، والبلدة تنضح صمتاً ، والأشياءُ ، والأشلاءُ ، والترابُ امتزجوا ، لتصبح الأرض أكبر ، والتربة أقسى ، والبيضا تحمل الألوان كلها إلا اسمها .
لم يعانق والدته ، ولم يحتضن الجسد المسجى ، لأن الرأس وحدها كانت بارزة بين الأجساد ، جلس ورأسها بين ذراعيه ، ألقى نظرة طويلة إلى الأفق الأحمر ، وصدح بالغناء وحده ، كما لم يفعل من قبل أبدا ..
***
الخميس، 16 يناير 2014
أشياء عادية باليرموك
أشياءٌ عادية باليرموك
الصورة ثابتة .
سيدة شابة تتمدد على الأرضية الترابية ، في مدخل منزلٍ شبه منهار ، تفتح ساقيها معرية بطنها ، وفتاة لا تتجاوز العشرين ، تمد يديها إلى السيدة فتعود بهما مخضبتان بالدماء وسائل المخاض ، سيدة منهارةٌ تصرخ ألماً ، وأطفال ملقون كيفما اتفق ، كأنهم لا شيء , رجلٌ تسعيني يحتضن عكازه وهو نائم كجنين أمام المنزل من الخارج ، وجهه متغضنٌ من عصف الزمن وجسده متخشب من عصف الحياة التي تنازع الموت ، و بعض رجال خلف حائطٍ مهدم ، ينزف أحدهم ، وينتفض الآخرون قهرا .
لا شيء يعكر صفو الصورة ، فالسيدة لا تستطيع الولادة بصورة طبيعية ، وصوت صراخها لا يظهر في الصورة لأن صوت الرصاص كان أعلى ، وعورتها لم تلفت انتباه أحد !
تحاول أن تدفع جنينها فتعجز ، تقف على قدميها ، فلا تعود يدي الشابة من بين ساقيها إلا بمزيدٍ من الدماء ، تمسحها وهي تتمتم / ليتنا استطعنا إحضار طبيب ، دورة إسعاف لا تؤهلني لكي أقوم بهذا .
تقولها مرتجفة ، تتمنى البكاء فلا تجد له وقتا ، تربت السيدة على رأسها /
رويداً يا صغيرتي ، تستطيعين ذلك ، فقط قومي بشق البطن ، عملية قيصرية صغيرة ستضطرين لإجرائها ، دون مخدر موضعي أو أي مسكنات ، سكينك الصغير سيفي بالغرض .
تمتد يد الفتاة راجفة ، تصل بطن السيدة التي تمددت أمامها على ظهرها صارخة :
افعليها .
وتصرخ الفتاة وسكينها يقطع لحم جارتها ، سأفعل .
لا شيء جديد ، فالصورة لم تزل ساكنة .
****
الهدف ليس ببعيد ,
بضع خطوات لا أكثر ، سقط رجلٌ ، لكن هذا لن يوقفنا ، يهم بالانقضاض ، يوقفه زميله :
- فهل تريدنا أن نفقدك أيضا
- سأفعل إن تطلب الأمر ذلك
يربت على كتفه : سنفعلها يا أحمد ، لكن بدون أن نخسرك .
يمزق أحمد قميصه ، يضمد به جرح رجل توسد الأرض ، الرصاص يضرب الحائط الذي كاد أن ينهار ، يعري زميله المصاب من قميصه المخضب بالدماء ، ينادي همساً : هات لي تلك العصا من هناك .
يلف أحمد العصا بالقش ثم بالقميص ، يهمس لأصحابه ، ينظر إلى الكيس المعلق ببوابة المخيم ، يلقي زميله العصا ثم يندفع جريا ، ينقض آخر بالحجارة تجاه مكان القناصة المفترض ، ويندفع أحمد بأقصى ما يستطيع إلى الكيس ، يختطفه ، يحتضنه ، يتلقى رصاصة تخترق الكيس إلى صدره ، يستمر جرياً ، يتلقى أخرى في ساقه ، يستمر زحفاً ، تحمله رمال المخيم ، تكبيرات الرجال تدوي كالبكاء ، وترنيمة حزينة تتعالى من لا مكان ، تتساقط الحجارة من الحائط القديم فتثير عاصفة من الغبار تمنعه عن أعينهم ، يتوارى خلف الجدار وهو يصرخ : فعلتها .
ويتلقاه زملاؤه في أحضانهم وهم يتشربون دماءه بأجسادهم ، يقبل أحدهم وجنتيه ، يسقط أرضا بوجه قارب الذبول ، وبجسد نحيل هش ، تتراخى قبضته حول الكيس ، يفتحه الرجال ، أو ما تبقى منهم ، يتخطفون ما فيه ، ويحمل أحدهم نصيبه إلى داخل المنزل المنهار ، يهوي إلى جوار زوجته ليقبض بكفه على راحة يدها ، يناولها نصيبه مبتسما ، يسقط من فرط الإرهاق بجوارها ، ويده تمتد تتحسس جسد الطفل الساكن .
والصورة ثابتةٌ لا زالت ، فتاة شابة تخيط بأصابع مرتجفة بطن سيدة شبه عارية مغطاة بالدماء ، وزوج نحيل ذابل يلفظ أنفاسه الأخيرة مبتسما ، وطفلاً عمره خمس دقائق يضطجع على صدر امرأة جف ثديها ، ورغيفا خبز أحدهما سقط بالطريق أمام شيخ ينازع الموت بمدخل بيت منهار .
لا شيء تغير إلا : كسرة خبز !
الاشتراك في:
التعليقات (Atom)



